في وقت مبكر من صباح السبت الماضي ومع تزايد عزلة روسيا أقلعت بسرية طائرة من تل أبيب متجهة إلى موسكو. كان على متنها وفد من كبار الشخصيات.
حسب التقاليد اليهودية لا يسمح لليهود بالعمل يوم السبت إلا إذا كان الأمر يتعلق بإنقاذ حياة البشر.
كان على متن الطائرة يهوديان ملتزمان كان يعملان في وقت لا يعملان فيه عادة وهما رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت ووزير الإسكان زئيف إلكين، بالإضافة إلى أربعة مسؤولين.
وقيل إن إلكين كان هناك للمساعدة في الترجمة حيث لغته الأم هي الروسية إذ ولد ونشأ في خاركيف المدينة الأوكرانية التي تعرضت لقصف روسي لا هوادة فيه ولديه أقارب هناك. كان في طريقه للقاء مهندس الحرب على أوكرانيا.
توجه الإسرائيليون إلى مقر إقامة الزعيم الروسي في الكرملين. كان بينيت أول زعيم أجنبي يتحدث إلى فلاديمير بوتين شخصيًا فيما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا. لا نعرف الكثير عما دار في الاجتماع سواء الجلوس على مسافة ستة أمتار على طرف تلك الطاولة البيضاء اللامعة أُسوة بالقادة الأوروبيين الذين التقوا ببوتين في الفترة التي سبقت الحرب.
لم يتم تسريب أي شي في ذلك الوقت عما دار في اللقاء ولم يكن هناك شيء يمكن رؤيته والقليل يمكن سماعه بل أن اللقاء برمته كان في غاية السرية.
اللقاء بحد ذاته كان خبراً كبيراً لأنه طرح سؤالاً كبيراً ألا وهو: هل يمكن أن تكون إسرائيل الوسيط غير المتوقع في أسوأ أزمة بين روسيا والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة؟
وتصدر نبأ اللقاء عناوين الصحف العالمية عندما دخل ساعته الثالثة.
تتمتع إسرائيل بعلاقات مهمة مع كل من روسيا وأوكرانيا وكان بينيت يحاول لعب دور الوسيط بين الطرفين.
وتشعر اسرائيل بالقلق إزاء ما يجري في أوكرانيا فهناك ما لا يقل عن ربع مليون يهودي في أوكرانيا مؤهلون للحصول على الجنسية الإسرائيلية بموجب “قانون العودة”.
وكان بينيت مشغولاً بأمر يراه استراتيجيا ليس له علاقة بما يجري في ساحة القتال في أوكرانيا.
أقامت إسرائيل قناة حوار شبه دائمة مع الروس أو “جيراننا الشماليين” كما وصفهم أحد المسؤولين الإسرائيليين مؤخرا. تسيطر روسيا على سماء سوريا حيث تشن إسرائيل غارات جوية مستمرة ضد ما تقول إنها عمليات نقل الأسلحة والمسلحين المرتبطين بإيران، الدولة التي تعتبرها تهديدا وجوديا لها.
الآن أصبحت ديناميكيات علاقة أزمة إقليمية متشابكة بأزمة أخرى.
وتعتقد القيادة الإسرائيلية أن روابطها مع روسيا فاتحة مرحلة جديدة. قال لي مسؤول إسرائيلي إن بلاده يمكن أن تلعب دور “جسر” بين موسكو والغرب. بل إن رئيس الوزراء بينيت وصف الدور الإسرائيلي بأنه التزام أخلاقي ببذل كل جهد لتوسيع مجال الحوار.
كانت هناك ثلاث جولات من المحادثات المباشرة بين المسؤولين الأوكرانيين والروس في بيلاروسيا. المحاولات الأولى لوقف إطلاق النار المحلي للسماح بما يسمى بالممرات الإنسانية بالكاد صمدت وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين بالمسؤولية عن خرقها.
أي شروط لهدنة أكثر ديمومة ستتطرق الى جذور الأزمة. تطالب روسيا أوكرانيا بإعلان نفسها دولة “محايدة”، والتخلي بشكل نهائي عن الرغبة في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الناتو والتنازل عن أجزاء من الأراضي الأوكرانية. وتعهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمواصلة القتال لكنه يقول أيضاً إنه مستعد للحوار و”ليس للاستسلام”.
ومن غير المحتمل أن تلعب إسرائيل دور الوسيط بالمعنى المعتاد للكلمة حيث يكون الوسيط حكماً قوياً يحث كل طرف على تقديم تنازلات، ويجب أن يكون أكثر من مجرد ناقل رسائل يتنقل بين أطراف غير متكافئة. ويشكك البعض في جدية هذه المحاولة.
وقررت القيادة الإسرائيلية إلى حد كبير عدم الانصياع لمقاربة الغرب تجاه روسيا. على سبيل المثال لم تنضم إلى الكثيرمن الدول التي فرضت عقوبات على موسكو.
هذه مقامرة للمساعدة في خلق بيئة تساعد في خفض التصعيد. إنها مخاطرة كبيرة.
لقد أثار ذلك نقاشا حادا داخل إسرائيل. أولاً عندما لم تؤيد إسرائيل نص بيان يدين روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وصف البعض ذلك بأنه خطأ فادح لأن إسرائيل خالفت موقف الولايات المتحدة، الحليف التاريخي لإسرائيل. كانت هناك بعض الانتقادات المباشرة لروسيا، وفي نهاية المطاف ترك الأمر بيد وزير الخارجية يائير لبيد للتعامل معه. وانضمت إسرائيل في النهاية إلى قائمة المنددين بموسكو في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
المسؤولون الإسرائيليون يبذلون قصارى جهدهم ليوحوا أن اجتماع الكرملين كان بمباركة الولايات المتحدة. لكن صحفيًا إسرائيليًا مخضرمًا نقل عن مسؤولين أمريكيين شكوكهم بشأن تحركات بينيت، معتقدين أنه من غير المرجح أن ينجح في ثني بوتين عن موقفه.
ومنذ ذلك الحين ظهرت تفاصيل أكثر عن الاتصالات بين الطرفين الإسرا ئيلي والروسي، حيث نقل عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن المواقف الروسية والأوكرانية في المحادثات قد باتت اقل “تصلباً”. كان ذلك أول خبر مهم عن أي نوع من الاتفاق الأوسع ومن المرجح أن يعطي ذلك دفعة إضافية لجهود إسرائيل.
لكن معلقين آخرين حذروا من أن الحمقى وحدهم يمكن أن يثقوا بفلاديمير بوتين الآن.
وإسرائيل مستعدة للعب دور الوسيط في هذه الأزمة وهي تعتقد أنها بطاقة يجب أن تبقى على الطاولة ويمكن للغرب أن يلعبها إذا احتاج لذلك. بالطبع هي ليست العدسة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تُرى الحرب من خلالها.
ويدين الكثيرون من العرب الذين عايشوا تداعيات الغزو الأمريكي والبريطاني الغرب لما يرون أنه معايير مزدوجة تجاه أوكرانيا. ويشير الفلسطينيون إلى الدعم الغربي للمقاومة الأوكرانية والاحتفاء بقادتها ويسألون: وماذا عنا؟ المعارضون الإسرائيليون لهذا الموقف يقولون إنه لا يوجد وجه للمقارنة بين النزاعين.
وفي الوقت نفسه فإن تركيا التي تعتبر تاريخياً جسراً بين الشرق والغرب تبذل قصارى جهدها لفتح حوار بين روسيا وأوكرانيا. واستضافت وزيري خارجيتي البلدين في مدينة أنطاليا على البحر الأبيض المتوسط.
ورحب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بوساطة إسرائيل بين بلاده وروسيا لكنه لم يخف إحباطه أيضاً. فعندما سُئل كرجل يهودي عما إذا كانت لديه آمال في قيام “الدولة اليهودية” بمبادرات تجاه بلاده، قال: “علاقاتنا ليست سيئة. ليست سيئة على الإطلاق”، لكنه أضاف في إشارة إلى بينيت: “لا أعتقد أنه يلف نفسه بعلمنا”.
ربما هذا هو المطلوب من وسيط محتمل. وشكر زيلينسكي بينيت على محاولاته لإنهاء الحرب. لكن هذا لا يزال يبدو احتمالا بعيد المنال على الرغم من مساعي الجهود الدبلوماسية يوم السبت. منذ ذلك الحين والمكالمات بين الطرفين لا تزال مستمرة لكن هدير الطائرة المتجهة إلى موسكو لا يزال متوقفاً.